كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



واعلم أن أكثر هذه الأحكام: قد تدور بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياسين وحيث يخفى ولا يظهر ظهورا قويا فاتباع اللفظ أولى فأما ما ذكر من اشتراط أن يلتمس البلدي ذلك: فلا يقوي لعدم دلالة اللفظ عليه وعدم ظهور المعنى فيه فإن الضرر المذكور الذي علل به النهي لا يفترق الحال فيه بين سؤال البدوي وعدمه ظاهرا.
وأما اشتراط أن يكون الطعام مما تدعو الحاجة إليه: فمتوسط في الظهور وعدمه لاحتمال أن يراعي مجرد ربح الناس في هذا الحكم على ما أشعر به التعليل من قوله صلى الله عليه وسلم: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» وأما اشتراط أن يظهر لذلك المتاع المجلوب سعر في البلد فكذلك أيضا أي إنه متوسط في الظهور لما ذكرناه من احتمال أن يكون المقصود مجرد تفويت الربح والرزق على أهل البلد.
وهذه الشروط منها ما يقوم الدليل الشرعي عليه كشرطنا العلم بالنهي ولا إشكال فيه ومنها مايؤخذ باستنباط المعنى فيخرج على قاعدة أصولية وهي أن النص إذا استنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص هل يصح أولا؟ ويظهر لك هذا باعتبار بعض ما ذكرناه من الشروط.
وقوله: «ولا تصروا الغنم» فيه مسائل:
الأول: الصحيح في ضبط هذه اللفظة: ضم التاء وفتح الصاد وتشديد الراء المهملة المضمومة على وزن تزكوا مأخوذ من صرى يصري ومعنى اللفظة: يرجع إلى الجمع تقول: صريت الماء في الحوض وصريته- بالتخفيف والتشديد- إذا جمعته و«الغنم» منصوبة بالميم على هذا ومنهم من رواه «لا تصروا»- بفتح التاء وضم الصاد- من صر يصر إذا ربط. المصراة: هي التي تربط أخلافها ليجتمع اللبن والغنم على هذا: منصوبة الميم أيضا وأما ما حكاه بعضهم- من ضم التاء وفتح الصاد وضم ميم الغنم على ما لم يسم فاعله- فهذا لا يصلح مع اتصال ضمير الفاعل وإنما يصح مع إفراد الفعل ولا نعلم رواية حذف فيها هذا الضمير.
المسألة الثانية: لا خلاف أن التصرية حرام لأجل الغش والخديعة التي فيها للمشتري والنهي يدل عليه مع علم تحريم الخديعة قطعا من الشرع.
المسألة الثالثة: النهي ورد عن فعل المكلف وهو ما يصدر باختياره وتعمده فترتب عليه حكم مذكور في الحديث فلو تحفلت الشاة بنفسها أو نسيها المالك بعد أن صراها لا لأجل الخديعة فهل يثبت ذلك الحكم؟ فيه خلاف بين أصحاب الشافعي فمن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى المعنى أثبته لأن العيب مثبت للخيار ولا يشترط فيه تدليس البائع ومن نظر إلى أن الحكم المذكور خارج عن القياس خصه بمورده وهو حالة العمد فإن النهي إنما يتناوله حالة العمد.
المسألة الرابعة: ذكر المصنف «لا تصروا الغنم» وفي الصحيح: «الإبل والغنم» وهذا هو محل التصرية والفقهاء تصرفوا وتكلموا فيما يثبت فيه هذا الحكم من الحيوان ولم يختلف أصحاب الشافعي أنه لا يختص بالإبل والغنم المذكورين في الحديث ثم اختلفوا بعد ذلك فمنهم من عداه إلى النعم خاصة ومنهم من عداه إلى كل حيوان مأكول اللحم وهذا نظر إلى المعنى فإن المأكول اللحم يقصد لبنه فتفويت المقصود الذي ظنه المشتري بالخديعة موجب للخيار فلو حفل أتانا ففي ثبوت الخيار وجهان لهم من حيث إنه غير مقصود لشرب الآدمي إلا أنه مقصود لتربية الجحش وإذا اعتبر المعنى فلا ينبغي أن يصح هذا الوجه لأن إثبات الخيار يعتمد فوات أمر مقصود ولا يختص ذلك بأمر معين أعني الشرب مثلا.
وكذلك اختلفوا في الجارية من الآدميات لو حفلها وإذا أثبت الخيار في الأتان فالظاهر: أنه لا يرد لأجل لبنها شيئا ومن هذا يتبين لك: أن الأتان لا يقاس على المنصوص عليه في الحديث أعني الإبل والغنم لأن شرط القياس: اتحاد الحكم فينبغي أن يكون إثبات الخيار فيها من القياس على قاعدة أخرى وفي رد شيء لأجل لبن الآدمية خلاف أيضا.
المسألة الخامسة: قوله عليه السلام: «بعد أن يحلبها» مطلق في الحلبات لكن قد تقيد في رواية أخرى إثبات الخيار: «بثلاثة أيام» واتفق أصحاب مالك على أنه إذا حلبها ثانية وأراد الرد: أن له ذلك واختلفوا إذا حلبها الثالثة هل يكون رضي بمنع الرد ورجحوا أن لا يمنع لوجهين.
أحدهما: الحديث.
والثاني: أن التصرية لا تتحقق إلا بثلاث حلبات فإن الحلبة الثانية إذا انقصت من الأولى: جوز المشتري أن يكون ذلك لاختلاف المرعى أو لأمر غير التصرية فإذا حلبها الثالثة تحقق التصرية وإذا كانت لفظة حلبها مطلقة فلا دلالة لها على الحلبة الثانية والثالثة وإنما يؤخذ ذلك من حديث آخر.
المسألة السادسة: قوله: «وإن سخطها ردها» يقتضي إثبات الخيار بعيب التصرية واختلف أصحاب الشافعي: هل يكون على الفور أو يمتد إلى ثلاثة أيام؟ فقيل: يمتد للحديث وقيل: يكون على الفور طردا لقياس خيار الرد بالعيب ويتؤول الحديث والصواب: اتباع النص لوجهين:
أحدهما: تقديم النص على القياس.
والثاني: أنه خولف القياس في أصل الحكم لأجل النص فيطرد ذلك ويتبع في جميع موارده.
المسألة السابعة: يقتضي الحديث: رد شيء معها عندما يختار ردها وفي كلام بعض المالكية: ما يدل على خلافه من حيث إن الخراج بالضمان ومعناه: أن الغلة لمن استوفاها بعقد أو شبهته تكون له بضمانه فاللبن المحلوب إذا فات غلة فلتكن للمشتري ولا يرد لها بدلا والصواب: الرد للحديث على ما قررناه.
المسألة الثامنة: الحديث يقتضي رد الصاع مع الشاة بصريحه ويلزم منه عدم رد اللبن والشافعية قالوا: إن كان اللبن باقيا فأراد رده على البائع فهل يلزمه قبوله؟ وجهان:
أحدهما: نعم لأنه أقرب إلى مستحقه.
والثاني: لا لأن طراوته ذهبت فلا يلزمه قبوله واتباع لفظ الحديث أولى في أن يتعين الرد فيما نص عليه.
أما المالكية: فقد زادوا على هذا وقالوا: لو رضي به البائع فهل يجوز ذلك أم لا قولان ووجهوا المنع: بأنه بيع الطعام قبل قبضه لأنه وجب له الصاع بمقتضى الحديث.
فباعه قبل قبضه باللبن ووجهوا الجواز: بأن يكون بناء على عادتهم في اتباع المعاني دون اعتبار الألفاظ.
المسألة التاسعة: الحديث يقتضي تعيين جنس المردود في التمر فمنهم من ذهب إلى ذلك وهو الصواب ومنهم من عداه إلى سائر الأقوات ومنهم من اعتبر في ذلك غالب قوت البلد وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صاعا من تمر لا سمراء» وذلك رد على من عداه إلى سائر الأقوات وإن كان السمراء غالب قو البلد- أعني المدينة- فهو رد على قائله أيضا.
المسألة العاشرة: الحديث يدل على تعيين المقدار في الصاع مطلقا وفي مذهب الشافعي وجهان:
أحدهما: ذلك وأن الواجب الصاع قل اللبن أو كثر لظاهر الحديث.
والثاني: أنه يتقدر اللبن اتباعا لقياس الغرامات وهو ضعيف.
المسألة الحادية عشرة: قوله عليه السلام: «فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها» وقد يقال هاهنا سؤال وهو أن الحديث يقتضي إثبات الخيار بعد الحلب أو الخيار ثابت قبل الحلب إذا علمت التصرية.
وجواله: أنه يقتضي إثبات الخيار في هذين الأمرين أعني الإمساك والرد مع الصاع وهذا إنما يكون بعد الحلب لتوقف هذين المعنيين على الحب لأن الصاع عوض عن اللبن ومن ضرورة ذلك: الحلب.
المسألة الثانية عشرة: لم يقل أبو حنيفة بهذا الحديث وروى عن مالك قول أيضا بعدم القول به والذي أوجب ذلك: أنه قيل حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة وما كان كذلك لا يلزم العمل به.
أما الأول- وهو أنه مخالف لقياس الأصول المعلومة- فمن وجوه:
أحدها: أن المعلوم من الأصول: أن ضمان المثليات بالمثل وضمان المتقومات بالقيمة من النقدين وهاهنا إن كان اللبن مثليا كان ينبغي ضمانا بمثله لبنا وإن كان متقوما ضمن بمثله من النقدين وقد وقع هاهنا مضمونا بالتمر فهو خارج عن الأصلين جميعا.
الثاني: أن القواعد الكلية تقتضي أن يكون المضمون مقدر الضمان بقدر التالف وذلك مختلف فقدر الضمان مختلف لكنه قدر هاهنا بمقدار واحد وهو الصاع مطلقا فخرج من القياس الكلي في اختلاف ضمان المتلفات باختلاف قدرها وصفتها.
الثالث: أن اللبن التالف إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء من المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد كما لو ذهبت بعض أعضاء المبيع ثم ظهر على عيب فإنه يمنع الرد وإن كان هذا اللبن حادثا بعد الشراء فقد حديث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان منه موجودا عند العقد منع الرد وما كان حادثا لم يجب ضمانه.
الرابع: إثبات الخيار ثلاثا من غير شرط مخالف للأصول فإن الخيارات الثابتة بأصل الشرع من غير شرط: لا تتقدر بالثلاث كخيار العيب وخيار الرؤية عند من ثبته وخيار المجلس عند من يقول به.
الخامس: يلزم من القول بظاهره: الجمع بين الثمن والمثمن للبائع في بعض الصور وهو ما إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر فإنها ترجع إليه مع الصاع الذي هو مقدار ثمنها.
السادس: أنه مخالف لقاعدة الربا في بعض الصور وهو ما إذا اشترى شاة بصاع فإن استرد معها صاعا من تمر فقد استرجع الصاع الذي هو الثمن فيكون قد باع صاعا وشاة بصاع وذلك خلاف قاعدة الربا عندكم فإنكم تمنعون مثل ذلك.
السابع: إذا كان اللبن باقيا لم يكلف رده عندكم فإذا أمسكه فالحكم كما لو تلف فيرد الصاع وفي ذلك ضمان بالأعيان مع بقائها والأعيان لا تضمن بالبدل إلا مع فواتها كالغصوب وسائر المضمونات.
الثامن: قال بعضهم: إنه أثبت الرد من غير عيب ولا شرط لأن نقصان اللبن لو كان عيبا لثبت به الرد من غير تصرية ولا يثبت الرد في الشرع إلا بعيب أو شرط.
وأما المقام الثاني- وهو أن ما كان من أخبار الآحاد مخالفا لقياس الأصول المعلومة: لم يجب العمل به- فلأن الأصول المعلومة مقطوع بها من الشرع وخبر الواحد مظنون والمظنون لا يعارض المعلوم.
أجاب القائلون بظاهر الحديث: بالطعن في المقامين جميعا أعني أنه مخالف للأصول وأنه إذا خالف الأصول لم يجب العمل به.
أما المقام الأول- وهو أنه مخالف للأصول- فقد فرق بعضهم بين مخالفة الأصول ومخالفة قياس الأصول وخص الرد لخبر الواحد بالمخالفة للأصول لا بمخالفة قياس الأصول وهذا الخبر إنما يخالف قياس الأصول وفي هذا نظر.
وسلك آخرون تجريح جميع هذه الاعتراضات والجواب عنها.
أما الاعتراض الأول: فلا نسلم أن جميع الأصول تقتضي الضمان بأحد الأمرين على ما ذكرتموه فإن الحر يضمن بالإبل وليست بمثل له ولا قيمة والجنين يضمن بالغرة وليست بمثل له ولا قيمة وأيضا فقد يضمن المثلى بالقيمة إذا تعذرت المماثلة وهاهنا تعذرت.
أما الأولى: فمن أتلف شاة لبونا كان عليه قيمتها مع اللبن ولا يجعل بإزلاء لبنها لبن آخر لتعذر المماثلة.
وأما الثاني:- وهو أنه تعذرت المماثلة هاهنا- فلأن ما يرده من اللبن عوضا عن اللبن التالف لا تتحقق مماثلته له في المقدار ويجوز أن يكون أكثر من اللبن الموجود حالة العقد أو أقل.
وأما الاعتراض الثاني: فقيل في جوابه: إن بعض الأصول لا يتقدر بما ذكرتموه كالموضحة فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر والجنين مقدر أرشه ولا يختلف بالذكورة والأنوثة واختلاف الصفات والحر ديته مقدرة وإن اختلف بالصغر والكبر وسائر الصفات والحكمة فيه: أن ما يقع فيه التنازع والتشاجر يقصد قطع النزاع فيه بتقديره بشيء معين وتقدم هذه المصلحة في مثل هذا المكان على تلك القاعدة.
وأما الاعتراض الثالث: فجوابه أن يقال: متى يمتنع الرد بالنقص: إذا كان النقص لاستعلام العيب أو إذا لم يكن؟ الأول: ممنوع والثاني: مسلم وهذا النقص لاستعلام العيب فلا يمنع الرد.